إنفوغرافاقتصادالعالمالمرأة والثقافةتقنيةرياضةشؤون نسائيةصحةصورعلومفيديومنوعاتموريتانيا

استنطاق مآثر ومفردات ولد ابريد الليل / باباه ولد التراد

(منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) صدق الله العظيم.
فقدت موريتانيا يوم 13/ يناير /2021 علما من أعلامها الوطنية ، ومفكرا أصيلا واستراتيجيا كبيرا ورمزا فذا للدفاع عن الوحدة الوطنية والحضارة العربية الإسلامية ، القامة الكبيرة محمد يحظيه ولد ابريد الليل الذي رحلَ شخصُه ، وبقي أَثَرُه، شامخا، شاهدا، خالدا يشغل فضاء الفكر وقادة الرأي والسياسة مؤكدا أن “ذكر الفتى عمره الثاني”وأن ” الرجل العظيم هو من يعطي الدنيا أكثر مما يأخذ منها.
وهذا هو الذي قصده الراحل في مقاله (غزي لركاب) حين أراد أن ينصف الشيخ ماء العينين  “ليس هناك في البقاء والخلود ما يضاهي المجد، لأنه لا يشيد باللبنات والحجارة والحديد.
مقر المجد هو في قلوب وأذهان الرجال. إنه لا يتحطم. نسيان الذات وحده، قبل النسيان العادي هو الذي يدمره”.
ذلك أنه يرى ان الزعامة، على المستوى القومي، ليست سلطة، على الأغلب، وإنما هي قوة ناعمة مبنية على الولاء الطوعي وقناعة جماهيرية ،لأنها طاغية على الأنفس وتحتل تلقائيا القلوب، متسللة إلى بيوت الفقراء والأميين وقصور المتنفذين، لافرق ، ولاتحتاج إلى القوة والمال، لأنها هي نفسها قوة وغنى ، لذلك دأب المناضل الكبير والمفكر الاستراتيجي العتيق محمد يحظيه ولد ابريد الليل  الذي وهب حياته لوطنه وأمته ينشد الوحدة بالنضال الجسدي والفكري ، بل إنه يرى أن من يبالغ في الخصوصيات والذاتيات يكرس آثارا رجعية ، وبذلك فإن النخب التي انخرطت في التعاطي مع الإطار القطري الضيق الذي ارتضاه الاستعمار بأدواته ولغته أصلا،  قد رضيت هي الأخرى بوضع البلاد في الإطارالمنعزل ، سيما أن شعار الوحدة التي تتخطى الذاتيات صار في كثير من الحالات ممارسة تقدمية فعلية ، حتى أن بعض الكتاب والمناضلين الكونيين والعروبيين تجاوزوا المحلية جراء فكرهم ونضالهم وأمانة انتمائهم لىشعوبهم وأممهم.حيث ورد في مقاله (القمة العربية بين قصف الغربيين وهرج العرب ):

” ان مطلبنا الرئيسي هو حقنا في تشكيل دولتنا القومية، التي بدونها لن تكون لنا كرامة. الدولة الوحدوية هي الإختيار الوحيد الذي من شأنه أن ينقذ العرب، هو المشروع الوحيد الذي سيغير مصير العرب تغييرا نوعيا.

الحياة في الإطار الضيق، إطار الدولة القطرية، زرع في نفوس الناس وساستنا عقدة الدونية وعادة الشعور والإحساس بالتبعية للغير إلى درجة أن تلك العادة أصبحت طبيعة .

المشروع الوحدوي سيصنع من العرب رجالا غير منقوصين وسيرفعهم من درجة المنبوذين والممثلين الصامتين في لعبة الأمم إلى شركاء محترمين، لأن الوحدة ثورة راديكالية “.
في الحلقة الثالثة من سلسلة مقالاته عن الراحل محمد المصطفى ولد بدر الدين رحمه الله، يؤكد المرحوم محمد يحظيه ولد ابريد الليل الذي يعتبر أن الحركات التقدمية التي انخرطت من أجل كل ما من شأنه أن يوقف الحرب بين الأشقاء لم تكن تتطلع على الإطلاق، إلى تطبيق أفكارها في بلد يمتاز بدرجة مخيفة من التأخر، حيث يقول
“هذه كانت الأطروحة الأساسية للحركة الوطنية الديمقراطية MND، وهي أطروحة احتياطية للبعثيين، الذين كانوا، يرجعون في التعامل مع الأمور الرئيسية كمسألة الحكم، إلى كتابهم المفضل، كتاب ميشيل عفلق الذي يُحيطونه بمسحة من التقدير إن لم تكن من التقديس، تفاديا للسقوط في الهرطقة. يقول ميشيل عفلق حرفيا: “إنها نظرة ضالة سطحية تلك التي تسمى الإصلاحات الجزئية التي تحققها بعض الأقطار ثورة وانقلابا، في حين أنه لا ثورة جدّية إلا في نطاق الأمة العربية الواحدة”.
هذا الصوفي الفريد متعلق بالفكرة السياسية المطلقة، لا تُغريه سلطة الدولة ما دامت غير مرتبطة بثورة شاملة على مستوى الأمة العربية ككل. وأكثر من ذلك، فهو يعتبر أن السلطة تُفسد، وأنه من الأفضل للمناضل أن يكون في قعر زنزانة – الشيء الذي يُعمّق الوعي السياسي- بدلاً من الوجود في السلطة.
الوجود في السلطة في قُطر عربي، لا محالة سيؤول إلى الإنزلاق، الضار أكثر من غيره، وهو أن ينشغل المناضلون الأكثر كفاءة ووعياً، بمهام الدولة التي لا حلّ لها على المستوى القُطري، وأن تُنسى الثورة. أما الهدف الأساسي والأسمى-في نظره- فهو أن يسترجع العرب كرامتهم وعزتهم المفقودة، وأن يشاركوا إلى جانب الأمم الأخرى، على نفس المستوى، في المسيرة الإنسانية الحديثة من أجل التقدم”.
في هذه الفقرة من كلمات مؤسس البعث التي استشهد بها المرحوم محمد يحظيه والتفسير الذي أعطاها قبل فترة وجيزة من وفاته هي التي توضح استقامة مسيرته المترعة بالنضال والتضحية ، وهذا يشبه تماما ماقاله صدام حسين أمام المحكمة قبل أشهر قليلة من استشهاده “إن حزب البعث هو الذي صنعني “،
والواقع أن مدرسة البعث قد امتازت بخصال الصدق والوفاء والتضحية ، ولكن ذلك لم يأت اعتباطا  لأنها تتحرى في الاختيار من أجل صنع القادة ذلك أن القائد الحقيقي هو  الذي  ، يتحمل مشاكل الآخرين ،من دون أن يكلفه أحد بشيء .
خلال التواجد الجماهيري العفوي المتميز للندوة التي نظمها المرصد الموريتاني للغة العربية  14/05/2016 بدار الشباب القديمة تكريما للأستاذ محمذن ولد باباه على جهوده في خدمة اللغة العربية  حضر هذه الندوة أغلبية قادة التيارات السياسية التقليدية في موريتانيا ، من القوميين والإسلاميين واليساريين ، وكذلك رؤساء بعض الأحزاب الحديثة من الموالاة والمعارضة  ، فضلا عن البرلمانيين ،والمحامين ، والأساتذة الجامعيين، والأدباء، والكتاب والصحفيين ، والطلبة والشباب ، والجمعيات النسوية ، ومنظمات المجتمع المدني .
وقد شكل هذا المشهد فرصة لبعض السياسيين من أجل استنطاق التاريخ ، وطرح العديد من الأفكار التي لم يتم الإنتباه لدلالاتها ، بسبب انفعالات اللحظة والمكان ، ومع ذلك فإن بعض المواقع قد سجلت ـ على الأقل ـ جزءا من آراء المفكر البارز محمد يحظيه ولد ابريد الليل التي كان يبتغي من ورائها الثناء على الأستاذ محمذن ولد باباه إلا أنها كانت في حقيقتها تعكس حرص الرجل على إيجاد وسيلة في ذلك الوقت يتم من خلالها وقف الحرب على وطنه الواسع بعد أن عارضها أصلا حيث خاطب النخبة السياسية الموجودة في القاعة قائلا : “..ترددت مرات لمدة سبعة أشهر على محمذن ولد باباه الوزير في حكومة المختار ولد داداه رغم انى أحمل في رأسى قنبلة انقلاب 10 يوليو .. من أجل الحوار والحوار في كل الأحوال مطلوب وضروي لكن الإتفاق ليس شرطا “.
وقد فسر بعض المحللين حضورالرجل غير المعهود لمكان الندوة ، ونوعية المشاركين ، مع خلفيته كمفكر استراتيجي ومساهم فاعل في صناعة الحدث ، أن ما قصده ذلك المناضل العتيق قد يكون ـ من بين أمورأخرى ـ دعوة موجهة بالدرجة الأولى للنخبة السياسية في بلادنا للحوار فيما بينها من أجل تشكيل جبهة وطنية وقومية ، في ذلك الظرف ، كبديل عن الاستنساخ الحرفي للإيديولوجيا القديمة ، ولكي تكون حصنا منيعا للبلاد ، وفضاء رحبا يتسع لجميع المكونات ، لأن المشتركات الكثيرة التي تربط العلاقات الحميمة بين مكونات شعبنا لايمكن تجاوزها ولا الاعراض عنها ، ومعلوم أن من أهم المشتركات الخالدة لهذه المكونات ، هي الدين الإسلامي الحنيف ، واللغة العربية ، والوحدة الوطنية  .
ومع أن تفسير المحللين السابق يظل افتراضيا ، لأن نص المداخلة لايدعمه تماما ، إلا أن سلسلة الحلقات التي كتبها محمد يحظيه ولد ابريد الليل نفسه بعنوان : ” التحديات الاستراتيجية للديمقراطية الموريتانية ” تعطي رؤية كاملة عن جميع ما يقصد للإنتقال من دائرة التأثر والانتظار الي دائرة التأثير والمساهمة .
كذلك فإن سلسلة المقالات التي كتبها مؤخرا المرحوم محمد يحظيه ابريد الليل عن الراحل محمد المصطفى ولد بدر الدين رحمه الله، ترمز إلى أمور كثيرة وفيها يقول “اتخذ البعثيون، بدورهم، مواقف رافضة للحرب بين الأشقاء” ،لأن “العامل الأول للنجاح في الحرب هو صحة سبب الحرب نفسه”
ومع ذلك فقد  “افتتحت الحرب على هزيمة اقتصادية بسبب الضعف المالي الكبير الناجم عن التعويضات المالية الباهظة عن تأميم “ميفرما”
وهذا من شأنه أن يجعل هذه الحرب تشكل اكبر كارثة على البلد ووحدته الوطنية إلى درجة أن الأعداء باتوا يفكرون في كيفية نمط تقسيم موريتانيا ويؤكد هذا أنه “في نهاية سنة 1977، وصل التدهور إلى مستوى جديد غير مألوف.
في الدوائر الأجنيبة، باتت نهاية الدولة الموريتانية موضوع تداول جدّي. وسواء وصله الخبر بشكل عادي أم أنه كان شريكا في صفقة ما، فقد طالب سينغور بحصته وهي جنوب موريتانيا، وذلك من خلال مقابلة صحفية أجراها مع مجلة “جون آفريك” في ديسمبر 1977″.
لقد هزلت حتى بدا من هُـزالها  كلاها وحتى سامها كل مفلس .
لذلك يؤكد القائد الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل المسكون بالهم الوطني أن  “المشاركة في تغيير العاشر يوليو كانت مجرد واجب وطني من أجل الحفاظ على السكان المحليين، دون أدنى إرادة أو طموح ثوري”.

ليس في التاريخ شيء مجاني  لقد استطاع محمد يحظيه ولد ابريد الليل بفضل قوة إرادته وصدقه وحزمه وشجاعته، وبصيرته النافذة أن يقهر المصاعب و يجعل المستحيل ذلولا ، لذلك فرض نفسه كقائد عظيم  ومفكر ومثقف عضو بلا منازع على هذا الفضاء الصحراوي بعد أن جعل مادة إبداعه هي هموم شعبه
ومع ذلك يقول بتواضعه المشهود “البعض ينظر إلى هذه التحاليل على أنها شطط ، بل وهوس ، بينما آخرون يرون فيها ، على العكس ، صرامة موضوعية لنظرة ثاقبة للواقع ، بدون تنازل مهما كان للذاتية “، باعتبار أن الشعب هو الذي يملي عليه وأن المجتمع  يفرز سلطات التوازن بشكل طبيعي مؤكداً أن سلطات التوازن المؤسسية ، في الدول المتخلفة ، ليست شيئا حقيقيا
يقول المرحوم محمد يحظيه”هذه المقاربة الجديدة تعيد إلى الأذهان أن الدولة أداة والمجتمع غاية وأنه من الضروري أن نتجنب ، من أجل رؤية صحيحة على مدى بعيد ، كل خلط بين الغاية والوسلية ، فأحرى أن نسقط في استبدال تلك بهذه . هذا التحليل يضيف – الشيء الذي ما زال يحتاج إلى تأكيد موضوعي ، دون تثبيت مجاني – أن الدولة منذ أن وجدت ، أي منذ حوالي 60 سنة ، عرفت تضخما هائلا رافقه ضمور بيٌنُ للمجتمع ، وأن هذا التضخم حصل على حساب المجتمع ” .
وهذا الانحياز للمجتمع على حساب الدولة التي قد تكون- من وجهة نظره – ليست ركنا إلا إذكانت تخدم المجتمع  هو الذي يفسر لنا ذلك الزهد في مناصب الدولة الذي رافق مسيرة حياة المرحوم محمد يحظيه .
لذلك نراه ينتزع من تاريخنا بعض المحطات المشرقة ليؤكد لنا في مقال فكري يمكن أن يؤسس عليه لإعادة كتابة التاريخ “في الواقع ، كل ما يشكل فخرا للأجيال الماضية والحالية على طول وعرض غرب الصحراء الكبرى لا يوجد فيه شيء اسمه دولة . مجتمعنا لا يتذكر دولة صنهاجة وملوكها : تلتان ، و ترجوت ، وتلكاكين وغيرهم ، في حدود القرون من السابع إلى التاسع “.
في حين أن استنطاق صفحات المقاومة المويتانية لكي يكون أمينا ومعبرا عن وجدانها يستدعي التعرف على كافة أساليبها وأنواعها المتعددة مثل المقاومة المسلحة ، ومقاطعة المستعمر، والاعراض عنه ، ومقاومته ثقافيا ، والهجرة من البلاد إلى الأقطارالعربية .
غير أن هذه المقاومة الباسلة لم تكن في تطلعاتها وأساليبها قطرية ولامناطقية ، فقد ترفعت عن هذه النظرة الضيقة ، وذلك نتيجة لإيمانها بالانتماء القومي والحضاري لأمتها العربية والإسلامية ، وقد ساعدها على ولوج محيطها العربي أنذك عدم وجود دولة على هذه الأرض أوحدود  سياسية لموريتانيا مع جيرانها العرب ،الذين تفاعلوا مع هذه المقاومة وغذوها بالسلاح والرجال ، وفي هذا الصدد يقول المرحوم محمد يحظيه ” تمكن الشيخ ماء العينين، في ذلك السياق التاريخي الميؤوس منه، في تلك الأوقات الصعبة، أن ينال تلك القامة وتلك المكانة التي لن يبارحها عند معاصريه وعند الأجيال اللاحقة.
لم يكن من السهل التحكم من النفس داخل جو مفعم بالأخطار والريب من كل اتجاه. هذا الوقت بالضبط هو الذي ابان فيه وبسط كل الفضل وكل العلو الذين يميزان الرجل ذا المكانة وذا التربية الرفيعتين.
إن التهديدات والخسائر لم تميع ولم تهز يوما واحدا إرادة هذا الرجل الذي بلغ 75 سنة وهو واثق كل الثقة في عدالة قضيته ومؤمن كل الإيمان أن السيادة لا يمكن التنازل عنها.
هذه الثقة بالنفس هي التي قهرت قلوب الرجال.
الشيخ ماء العينين هو وحده في غرب الصحراء الكبرى الذي تمتع بالنفوذ والتاثير الكافيين ليجذب على ظهور المواشي أو سيرا على الأقدام، عبر آلاف الكيلومترات الأمراءَ المسنين المتعودين على إصدار الأوامر القاطعة وشيوخ الطرق الذين تبدأ علاقتهم مع الآخرين بتقبيل أيديهم والعلماء الذين عودهم التفكير على الهدوء ونبذ الولع بالتوافه والتجمعات الصاخبة.
بفضل صدقه وحزمه وشجاعته فرض نفسه كقائد بلا منازع على هذا الفضاء الصحراوي، باسطا نفوذه من الداخلة إلى تينبكتو ومن اندر إلى كليميم. لم يوجد منذ 1062، أي منذ ظهور يوسف بنتاشفين، من حصل على هذه الهالة من النفوذ والاعتبار على هذه المفازات الشاسعة الجافة” .
والوقع أن المرحوم محمد يحظيه قد أراد من هذا السرد التأكيد على أن الانتماء العميق لأي أمة لا يكون متجذرا إلا ذا ارتكز إلى وفاء أصيل ، وجهد مشهود وإلا كان  تخلفا وجحودا، لا يليق الركون إليهما ،لإن بناء التراث ومنظومة الإنتاج الحضاري ، والمحافظة على السمات الأساسية ، يستدعي من كافة الوطنيين أن يساهموا في البناء ، وعرض الصفحات المطوية من الثقافة الناصعة والتاريخ المشرق ، مع أن الأمة الحية هي التي تكتب تاريخها وتمحصه حتى في شقه الآخر، ذلك أن المعارك التي تخسرها أي أمة تتحول إلى تجارب وتمارين أثناء المنازلات الحاسمة.
يقول المرحوم محمد يحظيه “حقا ، إن رجالنا العظماء كانوا يتمنون وجود الدولة بكل إلحاح وغيابها يحزنهم . أحد رجالنا القلائل الذي يمكن تسميته بدون تردد ، بالعالِم ، الشيخ سيديا زينة زمانه كان كأنه يبكي من انعدام الدولة . سأكون منزعجا إذا ظننتم أن الشيخ سيديا مجرد شيخ محظرة أو مجرد رئيس أخوية صوفية . الشيخ سيديا بمعرفته ووعيه السياسي والتاريخي كان من جِبِلةِ مؤسسي الإمبراطوريات ، ولكنه سقط في وسط مجتمع قد وصل من قبله إلى مرحلة متقدمة من الانحطاط والتيه وكان عمرُه – لم ينه دراساته إلا في سن 58 – وزهده وشعوره بالفخر يمنعانه من إلحاح لن يكون مجديا .
لو كنا درٌسنا حياة الشيخ سيديا في المدارس لكان شبح الجُنُوحية قد ابتعد عنا كثيرا.
الشيخ سيديا كان ، علاوة على ذلك ، أبا ورائدا لمقاومتنا الوطنية . ليس هذا محل قول (كيف) . يجب أن نعرف تاريخنا ” .
وهنا يتأكد أن جميع القادة والعلماء في بلادنا  ومن بينهم الشيخ سيديا الذين صنعوا التاريخ في هذه الأرض كانوا مصدر إلهام لمحمد يحظيه ولكل مدافع شريف عن هذا الشعب وهويته العربية الإسلامية ، خصوصا أن محمد يحظيه عبر في كثير من الأحيان ثقافيا وماديا عن اهتمامه بالعلماء والمحاظر والهوية الموريتانية  العربية الإسلامية التي تحلق بهذين الجناحين اللذين يحملان قيم الإسلام و عزته مع فصاحة اللسان العربي وبيانه لأنها محصلة عصور طويلة من اعتناق الإسلام ونشره ،مع ما يستلزمه ذلك من معرفة بلاغية ولغوية ، وهذا هو الذي جعل اللغة العربية تصبح اللغة السائدة في موريتانيا بالرغم من وجود مجموعات ثقافية لا تتكلمها أصلا ، حيث تمكنت الحضارة العربية الإسلامية في هذا البلد من تكييف الموروث الثقافي و الأخلاقي لمختلف المكونات العرقية غير الناطقة بالعربية في موريتانيا .
يقول محمد محمود ولد الشيخ الحسن المدير العام السابق للمدرسة الوطنية للشرطة الذي حقق مع المرحوم محمد يحظيه في السجن قبل أن يتطرق إلى توازن الرجل في ثلاث محطات متباينة جمعته به :” ثلاث مواقف شدت انتباهي عند المرحوم محمد يحظيه ول ابريد الليل ، وهي لاتتوفر لكثير من العظماء، الذين أحسبه من ابرزهم، فلا اتكلم هنا عن  أخلاقه الحميدة فتلك مسلمات عند المرحوم خصه الله بها ، ولا عن عنايته بالعلماء فتشييده لمساكن طلاب المحاظر في بلغربان وتندغماجك ومحظرة اهل التاه وغيرها ، عندما كان واليا في روصو ثمانينيات القرن الماضي ، والتي ماتزال بارزة للعيان،  يمكن اعتبارها سلوكا غير مألوف عند من سبقوه ولا من جاءوا بعد ذلك ، بالأسلوب المعاش الآن عند اغلب الولاة … “.
و يؤكد هذا أن المحظرة ظلت حاضرة في وجدان المرحوم يحظيه لأنها لعبت دورا كبيرا في الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية لبلادنا ، وبفضلها  تحول المجتمع الموريتاني الى شعب يملك تراثا ثقافيا إسلاميا عميق الجذور في غرب إفريقيا.
و خلال الغزو الفرنسي لموريتانيا وقفت هذه المحاظر سدّا منيعا في وجه الاستعمارالفرنسي البغيض ومايرافقه من استلاب حضاري مقيت، وأصبحت هذه المحاظر مراكز للمقاومة بشتى الوسائل الثقافية والعسكرية  والسياسية ضدّ المشروع الاستعماري الفرنسي وضدّ الارادة الفرنسية في فرض اللغة الفرنسية على موريتانيا ، لذلك حاول الاستعمار القضاء على المحظرة، لما لها من دور في تأصيل الشخصية الموريتانية ، وفي هذا الصدد كتب الحاكم الفرنسي العام في غربي افريقيا في تقرير إلى وزير المستعمرات (1902) عن صعوبة هذه المهمة  ، بسبب الخصوصية الثقافية للشناقطة حيث يقول: “..وجدنا شعبا له ماض من الامجاد والفتوحات لم يغب عن ذاكرته بعد ومؤسسات اجتماعية لا نستطيع أن نتجاهلها” ومع ذلك ضاعفت فرنسا جهودها من أجل إحلال لغتها و ثقافتها بدلا من اللغة العربية، لقطع موريتانيا عن محيطها العربي.
ورغم محاولات الاستعمار المتكررة إخضاع المحاظر لسلطته ، فقد فشل في تدجين المحظرة وإقصاء خريجيها ، حيث أخفق المرسوم الذي أصدره المستعمر سنة (1906) القاضي بصرف منحة تشجيعية شهرية قدرها (60أوقية) لكل شيخ محظرة يأمر طلابه بتخصيص ساعتين لتعلم الفرنسية .
ومع ذلك فإن هذا الإرث غير المادي مازال يهدده قرن من السيطرة والصمت لذلك فأن المرحوم محمد يحظيه ولد ابريد الليل يكتب بما يشبه الوصية :”مهمة رجال اليوم الذين هم ورثتها والمستفيدون منها هي الحفاظ على هذا المشعل الذي يضيئنا عندما يكون كل شيء مظلما”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى